فصل: تفسير الآية رقم (244):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (244):

{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244)}
{وقاتلوا فِي سَبِيلِ الله} وهو عطف في المعنى على {أَلَمْ تَرَ} [البقرة: 243] لأنه عنى انظروا وتفكروا، والسورة الكريمة لكونها سنام القرآن ذكر فيها كليات الأحكام الدينية من الصيام والحج والصلاة والجهاد على نمط عجيب مستطردًا تارة للاهتمام بشأنها يكر عليها كلما وجد مجال، ومقصودًا أخرى دلالة على أن المؤمن المخلص لا ينبغي أن يشغله حال عن حال، وإن المصالح الدنيوية ذرائع إلى الفراغة للمشاغل الأخروية، والجهاد لما كان ذروة سنام الدين، وكان من أشق التكاليف حرضهم عليه من طرق شتى مبتدأ من قوله سبحانه: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبيلِ الله} [البقرة: 154] منتهيًا إلى هذا المقام الكريم مختتمًا بذكر الانفاق في سبيله للتتميم قاله في الكشف وجوز في العطف وجوه أخر، الأوّل: أنه عطف على مقدر يعينه ما قبله كأنه قيل فاشكروا فضله بالاعتبار بما قص عليكم وقاتلوا في سبيله لما علمتم أن الفرار لا ينجي من الحمام وأن المقدر لا يمحى فإن كان قد حان الأجل فموت في سبيل الله تعالى خير سبيل وإلا فنصر وثواب، الثاني: أنه عطف على ما يفهم من القصة أي اثبتوا ولا تهربوا كما هرب هؤلاء وقاتلوا، والثالث: أنه عطف على {حافظوا عَلَى الصلوات} إلى {فَإِنْ خِفْتُمْ} [البقرة: 283، 239] الآية لأن فيه إشعارًا بلقاء العدوّ وما جاء جاء كالاعتراض،.
الرابع: أنه عطف على {فَقَالَ لَهُمُ الله} [البقرة: 243] والخطاب لمن أحياهم الله تعالى وهو كما ترى {واعلموا أَنَّ الله سَمِيعٌ} لما يقوله المتخلف عن الجهاد من تنفير الغير عنه وما يقوله السابق إليه من ترغيب فيه {عَلِيمٌ} بما يضمره هذا وذلك من الأغراض والبواعث فيجازي كلًا حسب عمله ونيته.

.تفسير الآية رقم (245):

{مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)}
{مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله} {مِنْ} استفهامية مرفوعة المحل بالابتداء، و{ذَا} خبره و{الذى} صفة له أو بدل منه، ولا يجوز أن يكون {مَن ذَا} نزلة اسم واحد مثل ما تكون ماذا كذلك كما نص عليه أبو البقاء لأن ما أشد إبهامًا من من وإقراض الله تعالى مثل لتقديم العمل العاجل طلبًا للثواب الآجل، والمراد هاهنا إمّا الجهاد المشتمل على بذل النفس والمال، وإمّا مطلق العمل الصالح، ويدخل فيه ذلك دخولًا أوليًا، وعلى كلا التقديرين لا يخفى انتظام الجملة بما قبلها {قَرْضًا} إمّا مصدر عنى إقراضًا فيكون نصبًا على المصدرية، وإما عنى المفعول فيكون نصبًا على المفعولية، وقوله سبحانه: {حَسَنًا} صفة له على الوجهين وجهة الحسن على الأول الخلوص مثلًا وعلى الثاني الحل والطيب، وأخرج ابن أبي حاتم عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه القرض الحسن المجاهدة والانفاق في سبيل الله تعالى، وعليه يلتئم النظم أتم التئام {فيضاعفه} أي القرض {إِنَّ لَهُ} وجعله مضاعفًا مجاز لأنه سبب المضاعفة وجوز تقدير مضاف أي فيضاعف جزاءه، وصيغة المفاعلة ليست على بابها إذ لا مشاركة وإنما اختيرت للمبالغة المشيرة إليها المغالبة.
وقرأ عاصم بالنصب، وفيه وجهان: أحدهما: أن يكون معطوفًا على مصدر يقرض في المعنى أي من ذا الذي يكون منه قرض فمضاعفة من الله تعالى، وثانيهما: أن يكون جوابًا لاستفهام معنى أيضًا لأن المستفهم عنه وإن كان المقرض في اللفظ إلا أنه في المعنى الإقراض فكأنه قيل: أيقرض الله تعالى أحد فيضاعفه وهذا ما اختاره أبو البقاء ولم يجوز أن يكون جواب الاستفهام في اللفظ لأن المستفهم عنه فيه المقرض لا القرض ولا عطفه على المصدر الذي هو قرضًا كما يعطف الفعل على المصدر بإضمار إن لأمرين على ما قيل الأوّل: أن {قرضًا} هنا مصدر مؤكد وهو لا يقدر بأن والفعل، والثاني: إن عطفه عليه يوجب أن يكون معمولًا ليقرض، ولا يصح هذا لأن المضاعفة ليست مقروضة، وإنما هي فعل من الله تعالى وفيه تأمل، وقرأ ابن كثير {يضعفه} بالرفع والتشديد، ويعقوب وابن عامر {يضعفه} بالنصب.
{أَضْعَافًا} جمع ضعف وهو مثل الشيء في المقدار إذا زيد عليه فليس صدر والمصدر الإضعاف أو المضاعفة فعلى هذا يجوز أن يكون حالًا من الهاء في {يضاعفه} وأن يكون مفعولًا ثانيًا على المعنى بأن تضمن المضاعفة معنى التصيير، وجوّز أن يعتبر واقعًا موقع المصدر فينتصب على المصدرية حينئذ، وإنما جمع والمصادر لا تثنى ولا تجمع لأنها موضوعة للحقيقة من حيث هي لقصد الأنواع المختلفة، والمراد به أيضًا إذ ذاك الحقيقة لكنها تقصد من حيث وجودها في ضمن أنواعها الداخلة تحتها {كَثِيرَةٍ} لا يعلم قدرها إلا الله تعالى، وأخرج الإمام أحمد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي عثمان النهدي قال: بلغني عن أبي هريرة أنه قال: إن الله تعالى ليكتب لعبده المؤمن بالحسنة الواحدة ألف ألف حسنة فحججت ذلك العام ولم أكن أريد أن أحج إلا للقائه في هذا الحديث فلقيت أبا هريرة فقلت له: فقال: ليس هذا قلت ولم يحفظ الذي حدثك إنما قلت إن الله تعالى ليعطي العبد المؤمن بالحسنة الواحدة ألفي ألف حسنة ثم قال أبو هريرة: أوَ ليس تجدون هذا في كتاب الله تعالى: {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً}؟ فالكثيرة عنده تعالى أكثر من ألفي ألف وألفي والذي نفسي بيده لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله تعالى يضاعف الحسنة ألفي ألفي حسنة».
{والله يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} أي يقتر على بعض ويوسع على بعض أو يقتر تارة ويوسع أخرى حسا تقتضيه الحكمة التي قد دق سرها وجل قدرها وإذا علمتم أنه هو القابض والباسط وأن ما عندكم إنما هو من بسطه وعطائه فلا تبخلوا عليه فأقرضوه وأنفقوا مما وسع عليكم بدل توسعته وإعطائه ولا تعكسوا بأن تبخلوا بدل ذلك فيعاملكم مثل معاملتكم في التعكيس بأن يقبض ويقتر عليكم من بعد ما وسع عليكم وأقدركم على الانفاق، وعن قتادة، والأصم، والزجاج أن المعنى يقبض الصدقات، ويبسط الجزاء عليها فالكلام كالتأكيد والتقرير لما قبله ووجه تأخير البسط عليه ظاهر، ووجه تأخيره على الأول الإيماء إلى أنه يعقب القبض في الوجود تسلية للفقراء، وقرئ {يبصط}. {وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} فيجازيكم على حسب ما قدمتم.
ومن باب الإشارة: إن الصلوات خمس، صلاة السر بشهوده مقام الغيب، وصلاة النفس بخمودها عن دواعي الريب، وصلاة القلب راقبته أنوار الكشف، وصلاة الروح شاهدة الوصل، وصلاة البدن بحفظ الحواس وإقامة الحدود، فالمعنى حافظوا على هذه الصلوات الخمس، والصلاة الوسطى التي هي صلاة القلب التي شرطها الطهارة عن الميل إلى السوى وحقيقتها التوجه إلى المولى ولهذا تبطل بالخطرات والانحراف عن كعبة الذات {وَقُومُواْ لِلَّهِ} بالتوجه إليه {قانتين} [البقرة: 238] أي مطيعين له ظاهرًا وباطنًا بدفع الخواطر {فَإِنْ خِفْتُمْ} صدمات الجلال حال سفركم إلى الله تعالى فصلوا راجلين في بيداء المسير سائرين على أقدام الصدق أو راكبين على مطايا العزم ولا يصدنكم الخوف عن ذلك {فَإِذَا أَمِنتُمْ} بعد الرجوع عن ذلك السفر إلى الوطن الأصلي بكشف الحجاب {فاذكروا الله} [البقرة: 239] أي فصلوا له بكليتكم حتى تفنوا فيه أو فإذا أمنتم بالرجوع إلى البقاء بعد الفناء فاذكروا الله تعالى لحصول الفرق بعد الجمع حينئذ، وأمّا قبل ذلك فلا ذكر إذ لا امتياز ولاتفصيل وقد قيل للمجنون: أتحب ليلى؟ فقال: ومن ليلى؟ا أنا ليلى، وقال بعضهم:
أنا من أهوى ومن أهوى أنا ** نحن روحان حللنا بدنا

فإذا أبصرتني أبصرته ** وإذا أبصرته أبصرتنا

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين خَرَجُواْ مِن ديارهم} أي أوطانهم المألوفة ومقار نفوسهم المعهودة ومقاماتهم ومراتبهم من الدنيا وما ركنوا إليها بدواعي الهوى {وَهُمْ} قوم {أُلُوفٌ} كثيرة أو متحابون متألفون في الله تعالى حذر موت الجهل والانقطاع عن الحياة الحقيقية والوقوع في المهاوي الطبيعية {فَقَالَ لَهُمُ الله مُوتُواْ} أي أمرهم بالموت الاختياري أو أماتهم عن ذواتهم بالتجلي الذاتي حتى فنوا فيه ثم أحياهم بالحياة الحقيقية العلمية أو به بالوجود الحقاني والبقاء بعد الفناء {إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى} سائر {الناس} بتهيئة أسباب إرشادهم {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ} [البقرة: 243] لمزيد غفلتهم عما يراد بهم {وقاتلوا فِي سَبِيلِ الله} النفس والشيطان {واعلموا أَنَّ الله سَمِيعٌ} هواجس نفوس المقاتلين في سبيله {عَلِيمٌ} [البقرة: 244] بما في قلوبهم {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله} ويبذل نفسه له بذلًا خالصًا عن الشركة {فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} بظهور نعوت جماله وجلاله فيه {والله يَقْبِضُ} أرواح الموحدين بقبضته الجبروتية في نور الأزلية، {وَيَبْسُطُ} [البقرة: 245] أسرار العارفين من قبضة الكبرياء وينشرها في مشاهدة ثناء الأبدية، ويقال: القبض سره والبسط كشفه، وقيل: القبض للمريدين والبسط للمرادين أو الأول: للمشتاقين والثاني: للعارفين، والمشهور أن القبض والبسط حالتان بعد ترقي العبد عن حالة الخوف والرجاء فالقبض للعارف كالخوف للمستأمن، والفرق بينهما أن الخوف والرجاء يتعلقان بأمر مستقبل مكروه أو محبوب، والقبض والبسط بأمر حاضر في الوقت يغلب على قلب العارف من وارد غيبي وكان الأول: من آثار الجلال والثاني: من آثار الجمال.

.تفسير الآية رقم (246):

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246)}
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الملإ مِن بَنِى إسراءيل} الملأ من القوم وجوههم وأشرافهم وهو اسم للجماعة لا واحد له من لفظه، وأصل الباب الاجتماع فيما لا يحتمل المزيد وإنما سمي الأشراف بذلك لأن هيبتهم تملأ الصدور أو لأنهم يتمالؤن أي يتعاونون بما لا مزيد عليه، ومن للتبغيض والجار والمجرور متعلق حذوف وقع حالًا من الملأ {مِن بَعْدِ موسى} أي من بعد وفاته عليه السلام، ومن للإبتداء وهي متعلقة بما تعلق به ما قبله ولا يضر اتحاد الحرفين لفظًا لاختلافهما معنى {إِذْ قَالُواْ لِنَبِىّ لَّهُمُ} قال أبو عبيدة: هو أشمويل بن حنة بن العاقر وعليه الأكثر. وعن السدي أنه شمعون وقال قتادة: هو يوشع بن نون لمكان {مِن بَعْدِ} من قبل وهي ظاهرة في الاتصال، ورد بأن يوشع هذا فتى موسى عليهما السلام وكان بينه وبين داود قرون كثيرة والاتصال غير لازم، و{إِذْ} متعلقة ضمر يستدعيه المقام أي: ألم تر قصة الملأ أو حديثهم حين قالوا: {ابعث لَنَا مَلِكًا} أي أقم لنا أميرًا، وأصل البعث إرسال المبعوث من المكان الذي هو فيه لكن يختلف باختلاف متعلقه يقال: بعث البعير من مبركه إذا أثاره وبعثته في السير إذا هيجته، وبعث الله تعالى الميت إذا أحياه، وضرب البعث على الجند إذا أمروا بالارتحال.
{نقاتل فِي سَبِيلِ الله} مجزوم بالأمر، وقرئ بالرفع على أنه حال مقدرة أي ابعثه لنا مقدرين القتال أو مستأنف استئنافًا بيانيًا كأنه قيل: فماذا تفعلون مع الملك؟ فأجيب نقاتل، وقرئ {يقاتل} بالياء مجزومًا ومرفوعًا على الجواب للأمر. والوصف لملكًا وسبب طلبهم ذلك على ما في بعض الآثار أنه لما مات موسى خلفه يوشع ليقيم فيهم أمر الله تعالى ويحكم بالتوراة ثم خلفه كالب كذلك ثم حزقيل كذلك ثم إلياس كذلك ثم اليسع كذلك، ثم ظهر لهم عدو وهم العمالقة قوم جالوت وكانوا سكان بحر الروم بين مصر وفلسطين، وظهروا عليهم، وغلبوا على كثير من بلادهم وأسروا من أبناء ملوكهم أربعمائة وأربعين، وضربوا عليهم الجزية وأخذوا توراتهم ولم يكن لهم نبي إذ ذاك يدبر أمرهم وكان سبط النبوة قد هلكوا إلا امرأة حبلى فولدت غلامًا فسمته أشمويل ومعناه إسمعيل، وقيل: شمعون فلما كبر سلمته التوراة وتعلمها في بيت المقدس وكفله شيخ من علمائهم فلما كبر نبأه الله تعالى وأرسله إليهم فقالوا: إن كنت صادقًا فابعث لنا ملكًا الآية، وكان قوام أمر بني إسرائيل بالاجتماع على الملوك وطاعة أنبيائهم وكان الملك هو الذي يسير بالجموع والنبي هو الذي يقيم أمره ويرشده ويشيره عليه.
{قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال أَلاَّ تقاتلوا} {عسى} من النواسخ وخبرها {أن لا تقاتلوا} وفصل بالشرط اعتناءًا به، والمعنى هل قاربتم أن لا تقاتلوا كما أتوقعه منكم، والمراد تقرير أن المتوقع كائن وتثبيته على ما قيل، واعترض بأن عسيتم أن لا تقاتلوا معناه توقع عدم القتال، و{هل} لا يستفهم بها إلا عما دخلته فيكون الاستفهام عن التوقع لا المتوقع ولا يلزم من تقرير الاستفهام أن المتوقع ثابت بل إن التوقع كائن وأين هذا من ذاك؟ا وأجيب بأن الاستفهام دخل على جملة مشتملة على توقع ومتوقع ولا سبيل إلى الأول لأن الرجل لا يستفهم عن توقعه فتعين أن يكون عن المتوقع، ولما كان الاستفهام على سبيل التقرير كان المراد أن المتوقع كائن، وقيل: لما كانت عسى لإنشاء التوقع ولا تخرج عنه جعل الاستفهام التقريري متوجهًا إلى المتوقع وهو الخبر الذي هو محل الفائدة فقرره وثبته وكون المستفهم عنه يلي الهمزة ليس أمرًا كليًا، وقيل: إن {عسى} ليست من النواسخ وقد تضمنت معنى قارب وأن وما بعدها مفعول لها وهذا معنى قول بعضهم: إن خبر لا إنشاء، واستدل على ذلك بدخول الاستفهام عليها ووقوعها خبرًا في قوله:
لا تكسرن إني عسيت صائمًا

ولا يخفى ما فيه، وإنما ذكر في معرض الشرط كتابة القتال دون ما التمسوه مع أنه أظهر تعلقًا بكلامهم مبالغة في بيان تخلفهم عنه فإنهم إذا لم يقاتلوا عند فرضية القتال عليهم بإيجاب الله تعالى فلأن لا يقاتلوا عند عدم فرضيته أولى ولأن ما ذكروه بما يوهم أن سبب تخلفهم هو المبعوث لا نفس القتال، ويحتمل أنه أقام هذا مقام ذلك إيماءًا إلى أن ذلك البعث المترتب عليه القتال إذا وقع فإنما يقع على وجه يترتب عليه الفرضية، وقرئ عسيتم بكسر السين وهي لغة قليلة.
{قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نقاتل فِي سَبِيلِ الله} أي ما الداعي لنا إلى أن لا نقاتل أي إلى ترك القتال، والجار والمجرور متعلق بما تعلق به {لنا} أو به نفسه وهو خبر عن {مَا} ودخلت الواو لتدل على ربط هذا الكلام بما قبله ولو حذفت لجاز أن يكون منقطعًا عنه قاله أبو البقاء وجوز أن تكون عاطفة على محذوف كأنهم قالوا عدم القتال غير متوقع منا وما لنا أن لا نقاتل وإنما لم يصرحوا به تحاشيًا عن مشافهة نبيهم بما هو ظاهر في رد كلامه، والشائع في مثل هذا التركيب ما لنا نفعل أو لا نفعل على أن الجملة حال، ولما منع من ذلك هنا أن المصدرية إذ لا توافقه التزم فيه ما التزم، والأخفش ادعى زيادة إن وأن العمل لا ينافيها، والجملة نصب على الحال كما في الشائع، وقيل: إنه على حذف الواو ويؤول إلى {ما لنا} ولأن لا نقاتل كقولك: إياك وأن تتكلم؛ وقد يقال: إياك أن تتكلم والمعنى على الواو، وقيل: إن ما هنا نافية أي ليس لنا ترك القتال.
{وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن ديارنا وَأَبْنَائِنَا} في موضع الحال والعامل {نقاتل} والغرض الإخبار بأنهم يقاتلون لا محالة إذ قد عرض لهم ما يوجب المقاتلة إيجابًا قويًا وهو الإخراج عن الأوطان والاغتراب من الأهل والأولاد، وإفراد الأبناء بالذكر لمزيد تقوية أسباب القتال وهو معطوف على الديار وفيه حذف مضاف عند أبي البقاء أي ومن بين أبنائنا، وقيل: لا حذف والعطف على حد:
علفتها تبنًا وماءًا باردًا

وفي الكلام إسناد ما للبعض للكل إذ المخرج بعضهم لا كلهم.
{فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال} بعد سؤال النبي وبعث الملك {تَوَلَّوْاْ} أعرضوا وضيعوا أمر الله تعالى ولكن لا في ابتداء الأمر بل بعد مشاهدة كثرة العدو وشكوته كما سيجيء وإنما ذكر هاهنا مآل أمرهم إجمالًا إظهارًا لما بين قولهم وفعلهم من التنافي والتباين {إِلاَّ قَلِيلًا مّنْهُمُ} وهم الذين جاوزوا النهر وكانوا ثلثمائة وثلاثة عشرة عدة أهل بدر على ما أخرجه البخاري عن البراء رضي الله تعالى عنه، والقلة إضافية فلا يرد وصف هذا العدد أحيانًا بأنه جم غفير {والله عَلِيمٌ بالظالمين} ومنهم الذين ظلموا بالتولي عن القتال وترك الجهاد وتنافت أقوالهم وأفعالهم، والجملة تذييل أريد منها الوعيد على ذلك.